الجمعة، 26 أبريل 2013


وقفات مع فلسفة إبراهيم البليهي



 توطئة

الحمدُ لله ، وبعد:

إذا سرنا على قاعدة المفكِّر – المُحتفى به - إبراهيم البليهي في أنَّ ( العقل يحتلُّه الأسبق إليه ) فإن نقلي عن تلميذٍ لابن تيمية أو عن عالمٍ نجديٍّ في ذم الفلسفة لا يجدي شيئًا في مناقشة فكر إبراهيم البليهي وأطروحاته. لذا فليسمح لي الأستاذ البليهي ومريدوه أنْ أضع لغة تواصل بيني وبينهم في أنَّ البليهي رغم ولعه بالفلسفة وتقديسه للحضارة الغربية إلا أنَّه لا يزال داخل الدائرة التي يمكن النقاش معها. وذلك لخُلوِّ طرحه من البنية الشهوانية التي يسير عليها أغلب أدعياء الثقافة اليوم، ولبعده في أحايين كثيرة  عن الطَّرح السوقي المستفِزَّ، وللنبرات التي تُحِسُّ منها أنه صادق فيما يأملُهُ ويتأمَّلُه للعقل العربي.

كما أرجو من الأستاذ البليهي أن يتفاعل مع ناقديه كما يتفاعل مع مادحيه ومريديه. وإلا لكان البليهي مخالفًا لتنظيره في مراجعة وإعادة قراءة الأفكار والمبادئ.

ولكون البليهي – كما يرى مريدوه- ليس نتاجًا غربيًا حيث لم يتعلم أو يعش هناك فترة، فإنَّ هذا له بعد آخر في مناقشة فكر هذا النجدي الخالص المنبهر بالغرب انبهارًا ألغى به كثيرًا من وجوه الإنسانية عند غير الغرب من جهة، وجيَّر أكثر الفضل إلى غير أهله من جهة أخرى كما سيتضح لك.

(1)

اختلاف الجذر والأصل

البذرة الأساسية التي يرى البليهي أنها وراء كل شيء عظيم في الغرب اليوم هي فلسفة الإغريق ( الفلسفة اليونانية ) حيث يقول البليهي: ( وتراجع الأوربيون تراجعًا فظيعًا خلال الرؤية الأحادية المطلقة وبقوا على انغلاقهم حتى عادوا في عصر النهضة ثم في العصر الحديث إلى التراث الإغريقي فأحيوا الفكر الفلسفي ... ومن هنا تحقق هذا الازدهار الزاخر بالحيوية ...).

لكن الشيء الذي يدعو إليه البليهي لا يريد أن يمارسه هو تجاه الفلسفة الإغريقية من حالة البحث والتأمل والملاحظة ! وهذا شيء يدعو للغرابة في فكر البليهي! فلماذا لا يجري البليهي أدنى درجات البحث في مصادر اليونان الفلسفية، وأدنى حالات التأمل في جذور هذه الفلسفة؟. يقول أنور الجندي ( إن نظرة واحدة إلى أصول الفلسفة اليونانية تحكم حكمًا جازمًا بأن هناك تعارضًا عميقًا في الجذور الأساسية لكلا الفكرين : الإسلامي والهيليني) والهيلينية هي مرحلة استقرار الفكر اليوناني.

لماذا لا يمارس البليهي الدوران حول نفسه في إعادة التلقين الذي تلقاه واستبق إلى عقله،  فاحتلَّ عقله أنَّ الإغريق لا مصدر لهم إلا أنفسهم !!

يقول جورج ساطين في كتابه تاريخ العلم (من سذاجة الأطفال أن نفترض أن العلم بدا في بلاد الإغريق، لأنَّ المعجزة اليونانية سبقتها آلاف الجهود العلمية في مصر وفي بلاد ما بين النهرين وغيرهما من الأقاليم، والعلم اليوناني كان إحياءً أكثر منه اختراعًا. وقد سبق اليونان المصريون والكلدانيون والفرس ).

ليت البليهي أعاد الفضل لأهل مصر وفارس وبابل  في نشوء فكر الإغريق ولو بأقل المعايير العقلية، ثم ليته جَلَدَ مصر وفارس وبابل في ذواتها بأنها أهملت ما كان عندها من إرث وأن اليونان كانوا خيرًا منهم في التطور. لكن المحتلَّ لعقل البليهي منعه من الاعتراف بهذه الوصلة التاريخية المهمة، كما أوصل هو ما عليه الغرب الآن إلى فكر الإغريق.

ويكفي مريدي البليهي معرفةً لجَوْرِهِ في إلغاء جذور فلسفة الإغريق من وصف ول ديورانت للإغريق بأنهم الوارث المدلل المغترف لحضارة امتدت ثلاثة ألاف سنة، حصلوا عليها مع مغانم الحروب والتجارة كما جاء عنه في قصة الحضارة !!

تناقض متصل: يجزم البليهي بقوله في إحدى حواراته ( فاستقرَّ عندي اقتناعٌ تام بأن الحضارة الغربية هي حضارة استثنائية رائدة وليست امتدادًا  للحضارات القديمة ).

ثم قال في موضع آخر عن الحضارة نفسها ( حتى عادوا في عصر النهضة ثم في العصر الحديث إلى التراث الإغريقي فأحيوا الفكر الفلسفي ... ومن هنا تحقق هذا الازدهار الزاخر بالحيوية)، وقال أيضًا: ( المعرفة الفلسفية إبداع يوناني محض ..) !! قلت أنا: الجميع بين النقيضين محالٌ عقلاً .

(2)

تدوير الأزمة

لتحسب معي أخي القاريء كم بين ازدهار الفلسفة اليونانية ( 5ق.م ) وبين عصر النهضة ( بعد14م ) الذي استلهم فيه الغربيون –كما يرى البليهي- مكامن الإبداع والحياة الكاملة. ولتنظر إلى العصور المظلمة التي تخلَّلت تلك الفترة الطويلة كما يصفها المؤرخون.

وقصدي من هذا أن أبيِّن مدى البرمجة التي يمليها الأستاذ إبراهيم البليهي علينا في عزل كل ما هو طريق للتخلف إلى الشرق عن كل طرق الإبداع الغربي وذلك على النحو الآتي:

جرَّد البليهي الإغريق عن التأثر بالحضارات الشرقية، وسلب مصادرها إليهم.

ثم جعل دائرة الإبداع والحياة اليقظة للبشر لم تخرج من أثينا وتحالف أسبرطة معها ( بلاد اليونان ).

ثم أرجع ما حدث من ازدهارات متأخرة ( عصور النهضة ) إلى تلك الحضارة الإغريقية.

ليت البرمجة وقفت إلى هنا !

لكن .. إليك ما يقوله عن سبب توقف مدِّ استلهام أوروبا من الحضارة الإغريقية في فترات العصور المظلمة حيث تفوَّه قائلاً: ( أمَّا نكوص أوروبا عن الفكر اليوناني في العصور الوسطى والمظلمة فقد جاءها بتقليد ثقافات الشرق باعتماد رؤية أحادية مغلقة سدَّت منافذ الفكر الحر وأوقفت مسيرة الإبداع التي أبدعها الإغريق )..

أي عارٍ وخزي في هذا الكلام الذي يسلب العقل عن أي ومضة تفكير في دواعي النهضة والركود ثم بعد ذلك يُسمَّى تنويرًا وإضاءة.

إنَّ أبلغ ردٍّ وأشفى جوابٍ أجدُهُ وأذكرهُ على سلب البليهي الحضارات الإنسانية الأخرى وقلب الأمر عليها بأنها سبب للتخلف كلامهُ هو الذي قاله في إحدى حواراته حيث تفوَّه قائلاً: ( إنَّ كل مكاسب الدنيا لا تستحق غمط الحق، ولا خيانة الحقيقة ولا تضليل الناس فالحياة جدُّ قصيرة ومن الخبل والسفه إهمال الحقيقة من أجل مطامع دنيوية وهي بالضرورة حقيرة مهما بلغت قياسًا بأهمية الحقيقة ... ) .

إي واللهِ إنَّ الانبهار بالغرب اليوم – يا بُليهي- لا يستحق تجريد الحضارات الإنسانية الماضية عن وهَجِهَا، ولا رمي أسباب التخلف عليها، بل هو سفهٌ وخبلٌ كما قلتَ.

من هذا نعرف أن تدوير الأزمة عند كثيرٍ من أدعياء التنوير اليوم هي بالمكيال الذي يكيلون منه، فكما يتهكَّمون على العرب والمسلمين بتأزيمهم ظاهرة تآمر العدو عليهم، تنطق ألسنتهم ظاهرًا وباطنًا بأن العرب والمسلمين يتآمرون على نشر التخلف. ويكفي في تعليق أي أثرٍ رجعي اليوم في الغرب هو إما بسبب عربي أو إسلامي أو شرقي، والأيام حافلة.

(3)

مفهوم الخيرية .. والأزمة الاستباقية

يقول البليهي: ( فإذا كنَّا خير أمة أخرجت للناس فلماذا بقينا أدنى الأمم في العلوم والتقنيات وفي الإدارة والسياسة وفي القوة والاقتصاد وفي كل ما تعج به الدنيا من أمور الإنسان والحياة؟!).

لك أن تستخرج من هذا النص مفهوم الخيرية للأمَّة المسلمة عند البليهي. ولك أن تشعر كيف ألغى البليهيُّ في حديثه الجزءَ العظيم الذي ارتبط به هذا الوصف الإلهي للأمة المسلمة في تمام الآية، وهو الاستقامة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله حقًا وتعبيد الناس لرب العباد. هذه هي الخيرية التي إذا قامت كنا بها أعلى الأمم شأنًا، وليس ذلك لزامًا ألا يكون إلا بارتقائنا أعالي درجات التقنية والإدارة والسياسة ...

نعم .. هي وسائل للتمكين والاستخلاف ظنًا، لكنَّ تعبيد الناس لله تعالى هو خَيْريَّتُنا قطعًا.

يؤكد هذا ما عند البليهي من حكمٍ استباقي بأنَّ كل ما هو صادر من العِرْق العربي هوانٌ، وكل ما هو آتٍ من الجنس الغربي يقظة وسُمُوٌّ، فالقضية ليست عند البليهي في الخيريَّة، لكنها أزمة استباقية، واحتلال عقل .


(4)

الانعتاق من المألوف أهم من النتائج

في رؤية البليهي لفكر أبي حامد الغزالي نقطة مهمَّة تنقض ما غَزَله البليهي في عقول مريديه من حالة التحرر والتأمل. حيث يرى أنَّ أبا حامد الغزالي كانت قضيته الكبرى هي الإيمان بالله، فقط، وقد تحرر فيها من التقليد وحُجج المتخاصمين حتى سلك مسلك التصوف وهو مسلك يراه البليهي رائعًا حتى لو اختلفنا معه في النتيجة وهي – بالطبع- حقيقة ما آمن به الغزالي وخصومه.

إن ما نثره الغزالي في إحياء علوم الدين أو قواعد العقائد أو الاقتصاد هو في حقيقته تجاوزٌ للمعقول باسم المعقول، وافتياتٌ على الله بطريقة مسوَّغَة عند البليهي، وليست المشكلة هنا، فالكثير من المتصوفة يُسوِّغُ ما وصل إليه الغزالي من قضية الإيمان بالله لكن ليس من منطلق البليهي – الفلسفي الضال عند المتصوفة-، وإنما المشكلة هي أن يرضى البليهي بانعتاق الغزالي من المألوف والسائد  ( وهو اتباع الدليل النقلي ) بطريقة ينسفُ ويُبطل بها ما يعتبره أيضًا انعتاقًا وتحررًا وتأملاً وهو ما عند الفلاسفة !.

مع أنَّ الغزالي وصل إلى ما وصل إليه ابن سينا في مفهوم النبوة وأنها قوة التخييل والعقل والنفس كما في معارج القدس. فهو ليس إلا مضطرب كما بين ذلك عن نفسه في المُنقذ من الضلال.

وهذا بيانٌ شافٍ لأخذ البليهي بأهدابِ المسألتين (التصوف والفلسفة) دون الولوج فيهما على أصولهما فخرج بحُكمٍ واحدٍ كبيت العنكبوت على نقيضين من منطلق واحد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبين لنا البليهي أن تهافت الفلاسفة للغزالي وتهافت التهافت لابن رشد عند البليهي حالةً من التحرر المحمود حتى وإن عشتَ عائمًا فيهما أيهما حق؟ فالمهم هو التحرر لا النتيجة !! بينما في كل ما يقرره البليهي من الثناء على حضارة الغرب هي ما وصلوا إليه من نتيجة. والنقائض لا تنتهي عنده .

(5)

الإسلام والفلسفة

من الطبيعي أن يرى البليهي أطروحاته غير متوافقة مع علماء المنهج السلفي، لكن من غير الطبيعي اعتقاد البليهي أن مخالفي المنهج السَّلفي على موقفٍ واحد من الفلسفة. بمعنى آخر أن البليهي يرمي في أطروحاته إلى الأزمة الفكرية لدى معارضي الفلسفة، دون أن يشير إلى المواقف المتعددة والمتباينة للمتأثرين بالفلسفة وهم جميعًا يقفون موقفًا واحد ضد المنهج السلفي.

فعلى سبيل المثال الدكتور علي سامي النشار صاحب كتاب نشأة الفكر الفلسفي يقف على مسافة واحدة من المسافة التي يقفها البليهي في نقد المنهج السلفي، بل ربما يكون النشار أبعد خطوة، ومع هذا نجد في أطروحات النشار ما لا يرضاهُ البليهي، حيث  يرى النشار  أن لفظ المسلمين للفلسفة وتأنيب – وربما تكفير المشتغل به - لم يكن صادرًا من ضيق أفق مذهبي بل صادر من روح الحضارة الإسلامية و روح المنهج القرآني. بل صاغ النشار سببين جميلين في عدم قبول المسلمين للميتافيزيقا التي جاء بها اليونان انظرها عنده (1/57). مما يبعد أن يكون لدى البليهي ما لدى النشار من سعة الرؤية المتكاملة لكلا الفكريْن الفلسفي والإسلامي، لا تشدقًا وإنشاءً عبر المقالات والمقابلات.

أما البليهي فقد جعل كل مباحث الفكر الفلسفي مجالاً محمودًا في التحرر والتأمل، لا في ماهية المباحث التي طرقوها، ولا في طرق وصولها إلينا، ولا في تحرير العرب لها.

(6)

ماهية الآلهة .. حالة محمودة !!

في أكثر من مقابلة وفي أكثر من لقاء تحدث البليهي عن عظمة الإسلام فكرًا ومنهجًا، وتحدث أنَّ الهوان جاء من أهله ومن أساليبهم في بناء أفكارهم ورؤاهم حتى غدو أضعف الأمم.

هذه الشمولية في الحكم تقابلها شمولية أخرى عند البليهي، وهي ثناؤه الشامل على الفلسفة اليونانية، دون تحرير لمواقع الخلل كما يُحلل هو مواقع الخلل لدى المسلمين في أسباب التخلف الحضاري.

والبليهي يعلم جيدًا أن مباحث الفلسفة اليونانية تناولت في معظمها ماهية الآلهة، ويعلم جيدًا أن خوضهم في الإلهيات لا يلتقي مع الإسلام ولا في مفرق شعرة ! بل غاية قولهم هو نقض لأصل العظمة التي جاء بها الإسلام، والتي تشدَّق بها البليهي كثيرًا. فهل لنا أن نفسد الفطرة التي فطرنا الله عليها كما طالبنا أرسطو بذلك حتى ننال الحقائق العلمية الإلهية؟ بحجة أنَّنا لا نستطيع أن نبني حضارةً عالية إلا إذا سرنا على قول أرسطو: ( من أراد أن يشرع في طلب هذه المعارف الإلهية فليشرع لنفسه فطرة أخرى) كما نقل عنه الرازي في المطالب العالية.

هذه هي المعارف والحقائق التي سطرها فلاسفة اليونان، وما سطروه في العلوم الطبيعية لا يعدل عِدْلَه، وهو مبنيٌّ على المعارف الإلهية، فهو ليس إلا نتاجًا له.

ثم إذا كان البليهي معجبًا لدرجة أنه قرأ أغلب كتبهم المعرَّبة في الإنسانية والعلوم الاجتماعية، ألم تقع عينه على نقد المستشرقين والدارسين  المتأخرين لكثير من الأفكار التي رسمها فلاسفة اليونان؟

ألم تقع عينه على نقد المستشرق هورتن لنظرية أرسطو المجتمعية في دائرة المعارف الإسلامية المشهورة؟ وبناء الفرد والمجتمع من أكثر النقاط التي يركز عليها البليهي. وانظر ما يقوله عبد الرحمن مرحبا في نقد فكر أرسطو للحياة وتباين منهجه المحسوس عن منهج أفلاطون العقلي في كتابه مع الفلسفة اليونانية (ص156وماقبلها)، وكذا مفهوم التعبيد المجتمعي عند أرسطو وهو يناقض ما يدعو البليهي له من نزع السلطوية في حياة الإنسان.

هل يُعقل ألا تقع عين البليهي في قراءاته على تأثير الفكر النصراني النسطوري في تعريب كتب اليونان؟ أو يقرأ عن تحريف المترجمين؟ أو كيف عربت من اليونانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية، وفي كل مرحلة تكون الترجمة على يدٍ غير اليد السابقة؟

بل أشار د. عمر فروخ إلى حجم تأثير تحريف الترجمة إلى أن الفارابي الذي نسب كتاب أثيولوجيا ( القول على الربوبية ) لأرسطو -وهو لأفلوطين- مما جعله يتناقض ولا يستطيع التوفيق بين آراءه في الكتاب الذي نحله له وبين كتابه الحقيقي الحروف ( الميتافيزيقا). فسلك مسلك التعسف للتوفيق وهما رأيان لشخصين مختلفين. كما فعل في التوفيق بين نقد أرسطو الشديد لأفلاطون في المثل والموافقة له في ما نحله له في أثيولوجيا ( القول على الربوبية ).

ليت البليهي أنصف نفسه وذكر شيئًا من هذه الجوانب المتباينة التي ملأت كتب الفلسفة بين ثنايا ذهوله واندهاشه وتسليمه المطلق لسلامة الفكر اليوناني من الانحراف أو التزوير حتى ولو –على الأقل- فيما يناقض أصل دينه الذي يدين البليهي به.

(7)

عموميات عائمة: النزعة الفردية وراء الحضارة الغربية

كثيرًا ما يعزو البليهي زَهَاء الحضارة الغربية إلى النزعة الفردية التي رسم ملامحها اليونان. هكذا بإطلاق، دون أن يُحرر مواضع تأثير النزعة الفردية على الإنسان والمجتمع. والعموميات في أطروحات البليهي عائمة لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً.

فلو بحثنا في أطروحات البليهي عن كيفية تحديد ملامح هذه النزعة الفردية التي كانت وراء هذا التطور الهائل للإنسان الغربي، فلن نجد غير أن النزعة الفردية سبيل للتحرر والتأمل الذي أيقظ الإنسان الغربي فقط. حتى لو قال قائل لي: إن البليهي عقَّد فلسفة الحضارة الغربية وألبسها لباسًا غير لباسها لما كذب عندي. ومثال ذلك تحليله للنزعة الفردية، فقد كان فلاسفة وحكماء عصر النهضة أصدق من البليهي في تفسيرها.

إنَّ النزعة الفردية التي قامت عصور النهضة عليها هي نزعة لا تعترف بوطن ولا بمجتمع ولا بروابط وإنما تعترف بالذات والأنانية، وهو صريح كلام فلاسفة عصر التنوير كتوماس هوبس، وهناك من هذَّب تعريفها بالأنانية إلى حب الذات ونفعيتها كجون لوك وإيمانويل كانت.

ولا يعني هذا أن لا يكون من هذه الحالة وَثْبَاتٍ يقظة أنتجت شيئًا من إبداع الإنسان، لكن الذي يعني البليهي –وهو المسلم المعترف بعظمة الإسلام- يعلم جيدًا أن النزعة الفردية تُنشئُ مجتمعًا أنانيًا ماديًا خالٍ من الروابط الاجتماعية، وخالٍ من التراحم بين الناس، وهي حالة ليست صالحة على كل حال بل في أكثر الأحوال. والناظر لحال الحضارة الغربية اليوم يرى أنها سخَّرت الآلة والحديد دون أن تُسخِّر الإنسان لأسمى معاني الرحمة والترابط.

وهذا مثال على أن البليهي لم يكلِّف نفسه بأن يعترف بشيء مما هو ظاهر لكل من يقرأ في تاريخ الحضارة الغربية من أوجهٍ اعترف بها أربابها.

والباقعة التي تلي هذا الأمر المخزي عند البليهي هو أن يعترف بأنانية الإنسان العربي في غالب طبعه، وذلك عندما تفوَّه: ( الإنسان العربي في الغالب أناني وجشع وفوضوي). بينما  الإنسان الغربي عند البليهي مجرد عن الأنانية والذاتية !!

بعد ذلك كلِّه تُدرك أخي القاريء أن الغرب كانوا أصدق في حضارتهم من رؤية بعض العرب لها، وتدرك حجم الخنوع الذي مارسه أدعياء التنوير لدينا.

(8)

الهدوء أمام الاستفزاز يجلب النصر

للبليهي عبارات أخَّاذة، تسرق لُبَّ القاريء والسامع لها، منها ما سبق ذكره ( العقل يحتله الأسبق إليه..) ( التحرر والتأمل يولِّد الإبداع ..) لكن من يتابع الأحكام والوصايا والنتائج التي يصل إليها البليهي يعرف كيف أنها أفسدت تلك العبارات، كما سبق.

ومما يستوقف القاريء – من ذلك- نظرة البليهي لما فعلته العلمانية الكمالية في تركيا، حيث يرى البليهي أنَّ الكمالية علمانية منقوصة لم تستطع أن تلغي النفوذ الإسلامي بعد سنين طويلة من الإخضاع والإقناع والقمع والجور لدى الأتراك، فعاد الإسلاميون وانتصروا بصوت الشعب، والسبب عنده في ذلك هو استمرار عملهم علنًا وبهدوء أمام استفزاز الكماليين.

وهذا يدعوني إلى أمر: وهو أنَّ البليهي في كل أطروحاته التي يطرحها في أسباب الرقي والتمكين والمزاحمة على مصافِّ الأمم الكبرى لم يتعرَّض يومًا في مقال أو مقابلة –حسب علمي- إلى القصور والجور الحاصل من أدعياء التنوير لدينا الذين سلكوا منذ ثلاث سنين تقريبًا كل أساليب الاستفزاز والتأليب الجماعي والمنظَّم في زعزعة الأمن الفكري وزرع التخوين والشك لمن يقف في وجه التنوير. وهم أولى بالمعالجة والنقد لدى البليهي من أي سبب آخر يقوِّض مسيرة الأمة، لأن أصحاب التنوير عند البليهي هم مشعل إيقاد الأمة ويقظتها –كما زعم- فإذا كان الإيقاد والإيقاظ يتم  بطرق الاستفزاز والسخرية واستغلال النفوذ بالقرارات الضاربة بغتة لحوادث فردية، إذا كان كل ذلك غائبًا عن أطروحات البليهي فعن أي أولويات يتحدث؟ وعن أي إيقاد يتأمل ويأمل البليهي؟!!

وحتى يقترب المعنى أكثر لدى البليهي أستشهدُ له بكلام رجلٍ يُحبُّه –البليهي- وهو الشيخ سلمان العودة حينما قال – في إحدى حلقات الحياة كلمة-: ( كيف تريد منِّي أن أقبل إجابة عابرة من شيخٍ جليلٍ لسؤالٍ مفاجئ أن هذا هو عبارة عن حملة منظمة ومدروسة، بينما تريد مني أن أصدِّق بأن عشرات المقالات التي كُتبت في وقت واحد وبالتزامن هي عبارة عن فعل عفوي وغير منظم وغير مدروس؟؟!!) وذلك في كلامه عن قضية الشيخ العلَم سعد الشثري، وهي قضية كشفت عن أزمة طالما تباكى عليها البليهي في أطروحاته وهي حينما تكون الثقافة سلطة !!.

هؤلاء هم التنويريون الذين يقول عنهم البليهي : ( إن الليبراليين المسلمين ليسوا ضد الدين وإنما هم ضد احتكار فئة من الناس للرأي، وضد الوصاية على الناس باسم الدين ) !

فأي وصاية بعد هذه الوصاية يا بُليهي ؟!!

(9)

أسهم البليهي من الحق !

قبل أن أسرد لك شيئًا من مقطوعات البليهي الحادَّة والجائرة، أقف هنا مع البليهي في ومضات لها سهمٌ وافرٌ من الحق:

حيث يرى البليهي أنَّ المجد الذي لحق بالعرب جاءهم من الإسلام فقط، لكن سرعان ما طمس المسلمون هذا البهاء الذي جاء به الإسلام بمجرد انتهاء عصر الخلافة الراشدة التي كانت تبني المجتمع بمشاركة فاعلة من الجميع.

كما يرى البليهي أنَّ دُوَل الخلافة والممالك سيَّست الدين للناس حتى ذهب بريق الإسلام وعظمته. وقامت على سفك الدماء والارتواء من إغاظة الحُكم السابق، وقهر الناس على فكر معيَّن كما في حادثة خلق القرآن، وأنَّ المأمون كان أحد أعلام ذلك المنهج.

ويرى أنَّ العرب انشغلوا بجبروت العدو وطغيانه عن جبروتهم وطغيانهم فيما بينهم.

وهناك أسئلة يتساءلها البليهي لها وجاهتها من الصواب:

يتساءل عن بلد كأمريكا ماذا لو كان الذي اكتشفه هم العرب ؟ هل سيكون كما هو الآن دولة واحدة حكمت العالم، أم سيكون مائة دولة تتنازع وتتصارع ؟

وبين ثنايا هذه الومضات البليهية أسألُ البليهي أنا أيضًا:

هل ترى أنَّ بناء دولة الإسلام الحديثة وإزالة بنية التخلُّف عنها يكون عبر إعلامٍ يُشغل العامَّة على مسائل تسلبُ منهم أخلاقهم: كالاختلاط وقيادة المرأة والتشكيك في صلاة الجماعة ونحوها؟

وهل ترى أن أدعياء التنوير وحملة الفكر الحضاري اليوم سالمين من التحزُّب والتشرذم – الذي هو آفة العرب عندك- ويبنون للناس مبادئً ذكرتها أنت في حواراتك وهي: ( الإيثار والإخلاص والصدق والوضوح والشفافية وتجعلهم يتبادلون الاحترام ) ؟؟!!.

لذا لن يكتمل هذا الحق عندك يا أستاذ إبراهيم حتى تبدأ بمن تعول ، وهم أدعياء التنوير وأوصياء الفكر الحضاري لدينا .

(10)

وقفات سريعة

* يعزو البليهي كثرة الأسئلة التي يوجهها العامة إلى المشايخ عبر برامج الإفتاء إلى أنَّهم تشربوا المنع أصلاً، وأنَّ الإباحة استثناء.

= نسيَ البليهي – خريج الشريعة- أنَّ الأصل في العبادات التوقيف – المنع-، وتناسى ( وبينهما أمورٌ مشتبهات )، ومن باب أولى أن يلغي هذا الحكم: باب سد الذرائع.

* يرى البليهي أنَّه من السُّخف ومن عدم الإنصاف نبز أوروبا بتاريخها الدموي، والتي ختمتها بحربين عالميتين، لأنها أفاقت من ذلك بحضارة استثنائية.

= سبق لك أن عرفتَ أيها القارئ كيف طمس البليهي تاريخ حضارات بابل ومصر وفارس. وهذا منطقيٌّ جدًا لمن لا يعترف بقيام حضارة إسلامية.

* إن كان البليهي يعزو في ذكره لأسباب تخلف المسلمين شيئًا من هذا إلى ظواهر التكفير المتعددة عبر التاريخ الإسلامي، فلا أجده إلا واحدًا من هؤلاء حينما تفوَّه قائلاً ( إنَّ الفرق بين الإسلام والمسلمين هو فرقٌ هائلٌ مثل الفرق بين العدل والظلم والعلم والجهل ).

=  انظر كيف سلب - بنشوة لقاء صحفي وحميمة احتفاء من حوله به- المسلمين من العدل والعلم تمامًا ؟؟!! هكذا البليهي يعلمنا الإنصاف وبنية التخلف و كيف نراجع جهلنا !!

* سوءات الغرب عند البليهي مطمورة في بحر حسناتها, لكنك لن تجد في حوارات البليهي ذكرًا لحسنة واحدة من حسنات المسلمين !!

* أخي القارئ .. عندما يُمارس الضمير العربي –فضلاً عن المسلم- أدنى درجاته، أو يتحرك العقل نحو الماضي، لن يجد فتنةً أطلَّت برأسها على المسلمين والعرب في الماضي القريب أشد وأنكى من فتنة هولاكو العصر جورج بوش في احتلال أفغانستان والعراق.

= لكنك ستجد فكر البليهي خاليًا من الحديث عن آثار هذه الهجمة أو دوافعها، بل ربما ستصل إلى  نتيجة حتمية أنَّ البليهي في جلده للذات برَّر هذه الاحتلال وهو لا يشعر.

( ختامًا)

هذه المناقشة مبنية على فرضية واحدة

هذه المناقشة التي أوجهها إلى البليهي كلُّها مبنيَّةٌ على فرضية واحدة، وهي أنَّ الحضارة الغربية فعلاً قامت على نفسها باستمدادٍ من الفكر اليوناني، وأنَّها حضارة متكاملة مستقلة في الأخلاق والنتائج المادية وبناء المجتمع السليم روحيًا وأخلاقيًا.

أمَّا لو بَنيْتُ نقدي هذا على ما قرَّرته الألمانية زيغريد هونكه في ( شمس العرب تسطع على الغرب ) أو أنَّ عصر النهضة من ثمار التخطيط الماسوني أو نحوًا مما لا يقبله عقل البليهي إطلاقًا لكان الكلام هنا شيئًا آخر .

وإنما أردت الكلام هنا على وفق ما يبني البليهي أسس دعوته – أو ما سمَّاهُ أحد مريديه: مشروعه الثقافي !- للعقل العربي.

والله من وراء القصد ..

بقلم/ حسان بن إبراهيم الرديعان - حائل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق