الثلاثاء، 28 مايو 2013

أعداء الديمقراطية الأربعة
أعداء الديمقراطية الأربعة بقلم: جواد البشيتي
جواد البشيتي
صِلة "المبدأ" بـ "الواقع" كصلة "الشيء" بـ "بيئته (محيطه، وسطه)"؛ وليس من "شيءٍ" يُمْكِنكَ فَصْله عن "بيئته"، والاحتفاظ به، في الوقت نفسه؛ فـ "الشيء هو على ما هو عليه"؛ لكونِّه متَّحِداً اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "بيئته"؛ وفَصْل "الشيء" عن "بيئته" إنَّما يعني "وَضْعه في بيئة أخرى"، وتَرْكِه يتفاعل معها، فيَخْتَلِف ويتغيَّر، بما يجعله "شيئاً آخر".
"المبادئ (والقِيَم)" تُوْلَد في "السماء"، بمعناها المجازي؛ فإذا بقيت في "عالمها الأفلاطوني"، أو في "عالَم الأفكار المجرَّدة"، فإنَّكَ لن تستطيع أبداً فَهْمها، أو "وَزْنَها"؛ فعالمها هذا، أو "مسقط رأسها"، إنَّما يشبه "فضاء تنعدم فيه الجاذبية"؛ فتتساوى الأجسام جميعاً في "صِفْريَّة" الوزن.
إنَّ عليها أنْ تَنْزِل أوَّلاً من "السماء" إلى "الأرض"، أيْ إلى "أرض الواقع"، فعندئذٍ فحسب تَدُبُّ فيها الحياة، ونَقِف على معانيها "الحقيقية (الواقعية، المحسوسة)"، ونستطيع، من ثمَّ، أنْ نَقِف منها موقفاً واقعياً؛ وهذا "الموقف الواقعي" إنَّما هو المتأتِّي من نَظَر المرء إلى "المبادئ (والقِيَم) التي كسا الواقع عظامها لَحْماً" بـ "عَيْن المصلحة والحاجة"، مصلحته هو، وحاجته هو.
"الديمقراطية"، بمبادئها وقِيَمها جميعاً، تظلُّ "أفلاطونية"، و"كونية (عالمية)"، ما بقيت في "السماء"، أيْ في "عالَم الأفكار المجرَّدة"؛ لكنَّها ما أنْ تهبط إلى سطح الأرض، وتنغرس في التربة التي سقطت فيها، وتتفاعل مع هذه "البيئة الأرضية (الواقعية)"، أو تلك، حتى نراها "كائناً حيَّاً"، له ما له من ملامح وخصائص.
و"الديمقراطية" لا تَنْزِل إلى "الأرض" إلاَّ كنُزول "فارِسٍ (محارِبٍ، مقاتِلٍ)" إلى "ساحة (وميدان) الصِّراع (والقتال)"؛ فإنَّ أعداء كُثْر (لها) يتربَّصون بها الدوائر؛ وأخطرهم، وأهمهم، أربعة، هُمْ: "المال (بسلطانه ونفوذه)"، و"الدِّين (باشتغال رجاله ومؤسساته بالسياسة، وسائر الشؤون العامة)"، و"التعصُّب (أيْ تعصُّب الفرد لجماعةٍ منافية بطبعها وطبيعتها للحياة الديمقراطية، كالعشيرة والقبيلة والطائفة الدينية)"، و"الخوف (أيْ خوف المواطن من عواقِب ممارَسَتِه حقوقه الديمقراطية المكفولة له دستورياً؛ لأنَّ قوى القمع والإكراه في "الدولة" ما زالت تَعْمَل، بالسِّرِّ والعَلَن)".
"الديمقراطية الفضلى"، أيْ التي صارعت "أعداءها الأربعة أولئكَ (وغيرهم)"، وانتصرت عليهم، إنَّما هي (حتى الآن) كائن خرافيٌّ؛ فإنَّ أيَّاً من المجتمعات العريقة في ديمقراطيتها لم يعرفها، وينعم بها، حتى الآن، فيكفي أنْ يبقى لها عدوٌّ واحدٌ، يستبدُّ بها، وهو "المال"، حتى يعتري الفساد كثيراً من مبادئها وقِيَمها "الواقعية"، أيْ التي تجسَّدت في الواقع، وبه؛ فتخيَّلوا (وهذا تخيُّلٌ يتضاءل فيها كثيراً وزن الواقع والواقعية) أنَّ مجتمعاً من تلك المجتمعات (العريقة في ديمقراطيتها) قد مارس (بأفراده وجماعاته) الحقوق الديمقراطية نفسها (أي المنصوص عليها دستورياً) وخاض تجاربه الانتخابية نفسها؛ لكنْ بمنأى عن سلطة وتأثير ونفوذ "المال"، وأباطرته، فهل تظل "النتائج (والعواقب)" هي نفسها؟!
إنَّني لم أرَ مؤسَّسة في الغرب (العريق في ديمقراطيته) تُعْنى بـ "تحليل النتائج"، أيْ نتائج كل انتخابات، ونتائج الممارسة الديمقراطية على وجه العموم، بما يسمح لها بإحاطتنا عِلْماً بالوزن الحقيقي والواقعي لـ "سلطة المال" في هذه "النتائج" على وجه العموم.
إنَّ "المال السياسي (الديمقراطي والانتخابي)" هو "قوَّة الإفساد والتشويه والمسخ الأولى (أيْ الأكثر فاعليةً ونعومة وقبولاً)" للحياة الديمقراطية، وللانتخابات منها على وجه الخصوص؛ ولقد اعتدنا وجود وعمل هذه "القوَّة"، وكأنَّها جزء لا يتجزَّأ من الديمقراطية نفسها، مفهوماً وواقعاً وممارسَةً.
و"الإيجابيون" في موقفهم من هذه "القوَّة"، أو من هذا "العدو الأخطر على الديمقراطية"، إنَّما يَسْتَمِدُّون لحججهم ومنطقهم قوَّة من تجارب الديمقراطية في "العالَم الآخر"، والذي إليه تنتمي مجتمعاتنا ودولنا العربية؛ ففي هذا العالَم، ما زالت تُلْعَب لعبة تزوير نتائج الانتخابات نفسها، فـ "نتائج الفَرْز" تأتي مختلفة عن "نتائج التصويت"؛ و"التصويت نفسه" محكومٌ بـ "قانون (ونظام) انتخابي" يَضْمَن الإتيان بـ "برلمان" يُمثِّل، لجهة مجموع الأصوات التي جاءت به إلى الوجود، "الأقلية (من الناخبين، ومِمَّن لهم حق الاقتراع، ومن الشعب)"، ولو كان المُدْلون بأصواتهم يمثِّلون أكثرية المقترعين؛ و"المشاركة"، لجهة حجمها ونسبتها، محكومة بـ "قانون انتخابي ـ سياسي خفي"، يسمَّى "عدم الجدوى"؛ فإنَّ كثيراً مِمَّن يحق لهم الاقتراع لا يشاركون في الاقتراع لشعورهم (الذي يغذِّيه الواقع نفسه) بـ "عدم جدوى المشاركة (من الوجهة السياسية)"؛ فالانتخابات، مع نتائجها، تجعل المواطِن أكثر إيماناً بأنْ "لا جديد تحت الشمس".
وفي هذا العالَم نفسه، والذي إليه ننتمي حتى في زمن "الربيع العربي"، ما زال "الخوف من العواقب" يشغل حيِّزاً من إرادتنا السياسية والانتخابية؛ فـ "الدولة" عندنا ما زالت تبدو حيِّزاً تتركَّز فيه قوى القمع والإكراه؛ أمَّا "طور الانتقال" الذي تعيشه دول "الربيع العربي"، فَلْمْ يعرف، على وجه العموم، من كَسْر القيود إلاَّ ما سمح بتحرير "قوىً"، يكفي أنْ تتحرَّر حتى تُقَيَّد الديمقراطية نفسها بسلاسل ثقيلة؛ فإنَّ كثيراً من الناس شرعوا يَعُون وجودهم، ومصالحم، وحاجاتهم، وحقوقهم، ومستقبلهم، بالدِّين، أو بالعشيرة والقبيلة والطائفة الدينية؛ ولقد وُجِد مَنْ يَشْحَن هذا "الوعي" بطاقةٍ هائلةٍ من التعصُّب، فعميت الأبصار والبصائر.
هذا "التكوين الفسيفسائي" لمجتمعاتنا يتحدَّى "الربيع العربي" أنْ يجعله "تعدُّديَّة ديمقراطية"، بها، وفيها، تتأكَّد قوَّة وحيوية الديمقراطية الوليدة، وإلاَّ استحال إلى "برميل بارود" تحفُّ به عيدان الثقاب المشتعلة، وما أكثرها.
ولقد اجتمع على هذه الديمقراطية الوليد "أعداؤها الأربعة الكبار"، متَّخذين من هذا "التكوين الفسيفسائي" برميل بارود، يُمْطرونه بوابِلٍ من عيدان الثقاب المشتعلة؛ أمَّا العاقبة التي قد تترتَّب على ذلك، والتي يكمن لهم، أو لبعضهم، فيها هدفاً، فهي جَعْلُ "القديم" يبدو أفضل، وأفضل بكثير، من هذا "الجديد".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق