الكومبس – مقالات: في المرقص الكندي الذي رواده عرب من كل الأطياف والأعمار، يرتفع منسوب الحمية الوطنية حين يردد المغني الشاب «حيّو سوريّا» بالعامية أو تحيا سوريا، بالقومية العربية الفصحى وعلى سبيل التحيات الوطنية الجامحة لسوريا تغلي الأجساد وتشب الى الساحة على قدم ونصف.
المهاجرون الذين في الخارج يحتشدون في هذا المرقص، وليس لنا أن نعرف هويتهم المعارضة أم الموالية، فالاضاءة شحيحة، وهذا ليس من شأن الذاهبين الى سهرة ترفيهية.
يتعالى صخب الايقاع العربي العالي المنغمس بدخان الاراجيل الكثيف، الممتزج بأضواء خافتة زرقاء وحمراء وخضراء، في المحفل العربي الراقص القابع على أطراف تورنتو، حيث يجتمع الشباب والصبايا لينفضوا عن غربتهم بقايا البرد والعزلة خلال شهر كئيب بارد وعاصف يطيح أشجار كندا، بيوتها وشوارعها، ويهل علينا بكل أنواع العواصف الطبيعية، التي ليست طبيعية.
ليس هناك شيء طبيعي هنا وهناك، في هذا المرقص، في هذا الجليد، في هذا العالم وهو يستقبل عاماً جديداً.
تنفعل الأجساد مع صخب الموسيقى والطعام والشراب... فتهرع الى ساحة الرقص، فلا تعرف إن هي متألمة أم أنها منتشية، أم أنها مخدرة تحت مؤثرات شتى.
المغني الذي لمّع حذاءه جيدا ووضع كمية كثيفة من مثبت الشعر كثيفة تحافظ على خصلات شعره الأمامية مرفوعة كعرف الديك، صار يتقن صنعته في هذا الزمن حين الموت والحرب يحصدان أشجار البلاد وأرواح العباد، ويحرقان ما تبقى من البيوت، ويفجران ما تبقى من أمل بالخلاص من رجس القتل المحلي والمستورد خاصة لهذه المرحلة القلعة من تاريخ الشعوب.
ويبدأ المغني بإلقاء التحيات على الشعب الراقص المتضامن في هذه الساحة مع قضايا الامة.
يحيي المغني الأقطار العربية قاطبة - لم أسمها لأنكم تعرفونها عن ظهر قلب. وحين يصل الى إلقاء التحيات على سوريا، ينفعل المرقص كلية، تتبارى الأجساء بالهياج ورفع الأكف في الهواء، نحو الله ربما، ثم الترنح بخفة على وقع اللحظة، تتلوى ألما، أو شبقا، أو على سبيل الانفعال البريء. لا أحد يمكنه أن يتكهن بما يجري في كنه الأجساد المهاجرة الهاربة من البرد، الغارقة في ليل العالم البارد، اللاجئة إلى المجهول.
السيدات اللواتي يلبسن فساتين لا يصلح طولها سروالا داخليا لجدات من بلادي، يبدعن في الرقص وجذب الأنظار الجائعة والشرهة.. السيدة المتناسقة في حجم أعضائها المكشوفة تنفعل بشدة تقفز على وقع العبارة «حيّو سوريا وأهل سوريا وشعب سوريا» ويقفز طرف الثوب الأسود الشفيف الى أعلى، فيظهر ردفها المسبوك النحيف، الأيمن ثم الأيسر وهي تتمايل مع الإيقاع، ويتمايل الشبان المتحلقون في المرقص الشاسع حول طاولات محتشدة بالأراجيل الطويلة العامرة بالجمر. ينفث الشباب الجمر، وينفث آهات وطنية شبقية، وما شابه. يرفع أحدهم يده في الهواء ويصرخ: «كاسك يا وطن..» فيقاطعه آخر من طاول أخرى وفي يده خرطوم الارجيلة ويقول «...أخت...» يبدأ الخناق، فيتدخل ( حارس الامن) ويفض العراك بين الجمهور العربي... ويستمر الغناء...
تنفعل تلك الشابة التي تلبس ثوباً أحمر قصيراً ملتصقاً بفخذيها، وتشده الى الأسفل كلما تذكرت أنه لا يزال هناك حشمة، فيتأرجح ثديها العامر المكشوف بحماسة وجرأة، يهتز معانقا الأضواء والدخان وروائح الأجساد المتشابكة على مقربة وسط ساحة معبأة بالحياة. تشد ثوبها الى الاسفل، تشد حمالة الصدر إلى أعلى، ترفع شعرها بدلع مبالغ فيه، تتمايل كأنها سنبلة في وجه الريح.
تتمايل، فتصطدم بالرجل الذي يرقص في جوارها ويوشك العراك أن يحتدم مع كل صدمة مقصودة أو عرضية. لا ننسى أن المرقص كان بحماية أكثر من خمسة رجال حراسة أمن المكان لحفظ السلامة العامة ومراقبة أي تحرش لاأخلاقي محتمل.
المغني يرى الانفعال الوجداني الحار والحاد، فيصر على إلقاء التحية على سوريا مرارا. يهتاج المرقص.
تسترعي انتباهي تلك السيدة التي يصعب عليها أن تتوازن لسبب ما، فلا تتمالك نفسها كأنها مخمورة بوطنيتها - لا أستطيع الجزم بأنها سورية أم لبنانية - فترفع طرف قميصها الأزرق الشفاف إلى أعلى وهي تنظر الى سقف المكان، متناسية تصديها المكشوف للهواء والأضواء ونظرات النساء والرجال إليها، تنظر الى السقف كي تشتكي إلى الله أو ربما تبتهل طلباً للخلاص. خلاص جسدها وجسد البلاد العربية والكندية والعالم...
العيون تحملق في الفراغ، تحملق في كعوب الأحذية العالية، في المؤخرات، في الأثداء، في الشفاه التي تشرب دخان الأراجيل بشبق ونهم، وتشرب بيرة خالية من الكحول، وتأكل مقبلات سورية ولبنانية مصنوعة على مذاق الوطن. وترقص السيدات حول الطاولة، ويترنح الرجال حول الطاولة إكراما لسوريا، لمصر، السعودية، الاردن، دول الخليج، العراق، اليمن، الأردن، فلسطين وسائر المشرق. لم يستثنِ المغني أحدا. لفت نظري الرقص المتقن الذي يجيده شباب من دول الخليج. ويجدر الذكر أن أغلب هؤلاء الشباب، يذهبون إلى السهر دون نساء، ويرقصون في حلقات متناغمة مع اللحن.
«حيّو سوريا» وتحيا هكذا في ليلة هوجاء، على إيقاع عربي وأجنبي، يشارك فيه بعض «المناضلين والمناضلات» في الخارج الذين تعبوا من اللقاءات مع هذا وذاك، وتعبوا من النضال على «الفيسبوك» أو وراء الكواليس في حضرة مسؤول ما، وتعبوا من انتظار لا شيء.
هكذا دوماً، ويختلط العهر بالوطن، بالوطنية، بالشبق، بالموت، بالغربة، بالضياع هنا، كما هناك. وكأن هذه الخلطة الرهيبة العجيبة صناعة محلية داخلية شرقية وليست مستوردة. إنها بضاعة الأوطان السليبة وردت إليها في ليلة من ليالي تورنتو الكندية الشتوية الكئيبة، أو في ليالي أميركا أو باريس الأنيقة المحتشدة بالمهاجرين والمنفيين، أو في ليالي البلاد المهزومة التي ترقص رعبا وعنفا منذ ألف عام، ومنذ أن تربعت السلطات الأبدية على رقاب الشعب، وفصلت لهم فساتين بمقاييس وألوان محددة، وفصلت لهم نوعاً محدداً من الشراب، وطريقة معينة في الاجتماع بين الحريم والمحرمين. بلاد أنجبت كل هذا الزخم من القسوة والتفسخ وتركته يتلاطم في عتمة العالم.
حين انتهت السهرة وبدأ الجميع بارتداء ثيابهم الشتوية السميكة، وعند الباب الخارجي وفي درحة حرارة تتجاوز (ناقصاً 30) كان بعض الشباب يدخنون أمام الباب، ويتحدثون في السياسة بصوت صاخب وعنيف. أحدهم احتدم غضبه وهو يسمع رأيا يخالفه حول الربيع والشتاء العربي، فأمسك الآخر من ياقة قميصه وشتمه برشقة من الألفاظ البذيئة وانصرف وهو يبصق على الأرض ويقول « ابن ش...... خائن أيضا » !
وكان حارس المكان غائبا في الزاوية يقبّل إحدى الفتيات وعلى وجهه ابتسامة بليدة، وكان وجه البنت مهدلاً وحزينا كعلم البلاد المخلوع في أكثر من مكان.
«حيّو سوريا»
" السفير "
جاكلين سلام
كاتبة سورية في كندا