الأحد، 14 ديسمبر 2014

قمة الدوحة بين التحشيش والتجييش
وليسَ يَصحُ في الاّفهامِ شيءٌ اذا احتاجَ النهارُ الى دليلِ
 (المتنبي)
 غاب العقل العربي وتوزع ايدي سبأ.. انكر ذاته، واستقال من وظائفه، وشطب الوعي والفكر والمنطق من معظم مجالاته وحساباته وحتى بديهياته. سقطت كل علامات التعجب والاستغراب، لم يعد لها لزوم ولا محل لها من الاعراب، فالعجيب فقد عجائبيته لكثرة تكراره واجتراره والاعتياد عليه، والغريب فقد غرابته لشدة حضوره وقوة ظهوره والتآلف او التكيف معه، والشاذ عن القاعدة فقد شذوذه بعدما اصبحت القاعدة ضالعة في الشذوذ والاستثناء والاتجاه المعاكس..
 اما العيب فقد غاب عن شاشة التداول ولم يعد له وجود، لأن الذين استحوا ماتوا. ما كان غريباً ومستهجناً بالامس بات اليوم عادياً وطبيعياً ومألوفاً للغاية، وما كان ممنوعاً ومحرماً في الماضي القريب اصبح هذا الاوان مباحاً وشرعياً ومعترفاً به، وما كان يثير الاشمئزاز والاستفزاز قبل عام او عامين صار اليوم شهداً وترياقاً وشراباً يلذ الشاربين ويشعل حماس الطالبين، حتى ان الخيانة - والعياذ بالله - اصبحت عادة معتادة، وقاسماً مشتركاً لدى اليسار واليمين، او اهل الحكم ورهط المعارضين على حد سواء. بغياب العقل العربي غاب الضمير ايضاً، فالضمير في اساسه حالة عقلية من شأنها التمييز - اولاً - بين الحق والباطل، وبين الصواب والغلط، وبين العدل والظلم.. ثم الانحياز - ثانياً - للحق والصدق والعدل والصواب على حساب الباطل والخطأ والكذب والاضطهاد والافتئات.
 باختفاء الضمير الجمعي، تقهقرت المثل والمبادئ والاخلاق.. انزوت في كهوف النسيان، وطفح بدلاً عنها سيل من الفهلويات والادعاءات والتكاذبات والمعايير الزائفة والوهمية والافتراضية التي تغتال الحقيقة، وتقيم على انقاضها مشاهد مسرحية وتمثيلية مسرفة في التضليل والخداع والاحتيال. يوم الثلاثاء الماضي لم نشاهد على شاشات الفضائيات وقائع قمة عربية، بقدر ما شاهدنا فصول مسرحية ميلودرامية هابطة جرى اخراجها في احد زواريب الدوحة، وغاب عنها العقل والخلق والضمير معاً.. فلا الفعل حقيقياً، ولا الخطاب منطقياً، ولا القرار واقعياً، ولا مكان فيها للاماني والآمال الوطنية والقومية على الاطلاق. معظم القمم العربية كانت فاشلة ومفلسة، واسفرت عن طنين بلا رصيد، غير انها احتفظت بقدر ما من الشروط السياسية والضوابط القانونية والمعطيات العقلية، في حين افتقرت قمة الدوحة الى ادنى مواصفات القمم، وابتعدت كثيراً عن جادة الصواب، وغرقت بالكامل في بحر من الشذوذ والجنون، وتلفعت بسحابة داكنة من الغاز والطوز والعار. ولعل ابلغ ما يصح في وصف هذه القمة، ذلك المثل الشعبي القائل 'تبدلت غزلانها بقرود'.. فرئيس القمة قرد في صورة 'حمد'، وامينها العام عميل عبري يزعم انه 'نبيل العربي'، وممثل سوريا البديل محض غلام متقلب ومريب انتحل لنفسه اسم 'معاذ الخطيب'، فيما ارتضى بقية الحضور بدور الكورس الذي اجاد القول والنشيد وفق ما تريده 'قاعدة العيديد'.
هي قمة البند الواحد.. بند ذبح العروبة من الوريد الى الوريد، وسلخ جلدها بمدية عثمانية، وفرم لحمها في مفرمة قرضاوية، وبيع دمها في اسواق النخاسة الامريكية، ومنح عرضها لفحول 'جهاد المناكحة' المسعورين والمعبئين بالشبق الجنسي. هي قمة لا تستحق ادنى مناقشة عقلية او مجادلة منطقية، لانها قمة بلا مضمون قانوني او اطار اخلاقي او مستوى سياسي.. قمة تنتمي الى مسرح العبث واللا معقول الذي ابتدعه صموئيل بيكيت في مسرحية 'في انتظار جودو'، وسار على نهجه يوجين يونسكو وآرثر اداموف وجان جينيه.. ثم تولى 'الخواجا حمد' نقله مؤخراً من عالم الادب الراقي الى دنيا السياسة الهابطة ورحاب القمم العربية البائسة. كيف يمكن للعقل مناقشة اللامعقول، والتحشيش السياسي؟ كيف يمكن للحقيقة محاكمة الوهم، او محاورة السراب والضباب ؟ كيف يمكن للاستقامة ان تتفهم الخيانة، او تبرر الانحراف والاعوجاج ؟؟ كيف يمكن - عقلياً وضميرياً - مجادلة الداعين والساعين الى تسليح المعارضة السورية التي تعيث في بلاد الشام فساداً، وليس المقاومة الفلسطينية التي تجهد في مقارعة المشروع الصهيوني ؟؟
 صدقوني ان قمة الدوحة لم تسئ لسوريا او تنل من صمودها وعزيمتها، بل اساءت الى نفسها، ونالت من هيبة ذاتها ومكانتها، وبدت امام العالم ضعيفة وسخيفة وهاربة من التزاماتها القومية، ومسؤولياتها الجمة في مواجهة التحديات، وحلحلة الازمات، واطفاء بؤر العنف، وتوحيد الجهود والطاقات والامكانات ما بين المحيط والخليج. لو لم تكن قمة للعبث والكيد والغدر، لكان لزاماً عليها، وفي صدر اولوياتها، تشكيل لجنة رفيعة المستوى ترفع شعار 'الحوار والتجسير والمصالحة الوطنية'، ليس بين الحكم والمعارضة في سوريا فحسب، بل وفي مصر والعراق واليمن ولبنان والسودان وتونس وفلسطين وليبيا والبحرين التي تغلي جميعها بالصراعات البينية، وتسيل فيها الدماء يومياً، ويمكن لجبهاتها الداخلية ان تنفجر باشد من الحاصل في سوريا، حال توفر التمويل والتسليح والاسناد الخارجي.
ولكن ماذا نقول في زمن اللا معقول.. زمن الرويبضة المتخم بالنفط والجهل والغرور.. زمن القافلة العربية التي يقودها زنديق خان نطفة ابيه ورحم امه.. زمن الفتاوى العابرة لحمرة الخجل وعلامات التعجب والاستغراب والاستفهام.. زمن يلخصه بيت من الشعر للشاعر احمد الصافي النجفي.. إنّا لفي زمنٍ لفرطِ شذوذهِ مَن لا يُجنُ به فليس بعاقلِ عموماً، سوف تمضي هذه الحقبة بقضها وقضيضها.. بما لها وما عليها، ولسوف تأتي على انقاضها مراحل واحقاب اخرى يعض فيها هذا البعير القطري على بنان الندم، وتغوص مشيخته خلالها في جحيم المآسي والويلات والانكسارات، ليس بفعل فاعل او انتقام منتقم، ولكن بحكم ناموس الكون ومنطق التاريخ وطبيعة الاشياء وقوانين الوجود.. فالثابت علمياً وتاريخياً ان نفخ الدول والبلدان اكثر من حجمها، وتحميلها من الاعباء والالتزامات فوق طاقتها، واستنزاف قواها ومواردها في معارك مفتعلة ليس لها فيها ناقة ولا جمل.. لن يعود عليها آخر الامر الا بالخراب والخسران المبين. انظروا في العالم شرقاً وغرباً.. قديماً وحديثاً، وستجدون ان كل دولة تحملت فوق طاقتها، وتورطت في مغامرات ومضاربات خطرة، ووسعت اهدافها باكثر من قدراتها، وسخّرت مواردها الذاتية لخوض معارك خارجية، قد باءت بالدمار والانهيار، بدءاً من الامبراطورية الرومانية، وانتهاءً بالامبراطورية السوفياتية، وانتظاراً للامبراطورية الامريكية التي توشك حالياً على الافلاس.. وكم كان عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو مدهشاً ومصيباً حين قال : 'ان اكثر اشكال الاقناع ضراوة، هي تلك التي تمارسها علينا طبيعة الاشياء'.
 بئست قمة قائدها بعير، وحضورها نواطير، وعرابها عثماني، وبرنامجها صهيوني، وعنوانها 'جهاد المناكحة'، وقرارها نابع من واشنطن، وغايتها افساد ذات البين، واداتها الرشوة والشرهة وشراء الذمم.. فلولا المال القطري الذي اطاح بالعقل العربي، واسال لعاب الحاكمين قبل المواطنين، لما تلطخت عيوننا بمشاهدة مثل هذه المسرحية الوهمية والعبثية السخيفة..
غير ان الحق جل وعلا يقول في سورة المسد : 'تبت يدا ابي لهب وتب، ما اغنى عنه ماله وما كسب'، صدق الله العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق