الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

من روزفلت إلى اوباما..

قراءة موضوعية في أبعاد العلاقات السعودية الأمريكية

بقلم : إميل أمين
الخميس هـ - 06 مارس 2014م
مقدمة
تشهد الأسابيع القليلة القادمة زيارة هامة جدا ينتظر أن يقوم بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى المملكة العربية السعودية، وهي الثانية من نوعها ل "أوباما" خلال ولايتيه الأولى والثانية، وإن كانت الزيارة القادمة تختلف كثيرا عن سابقتها، فالأولى جاءت في أجواء ملأها الأمل والتطلع إلى الأمام لجهة العلاقات العربية والإسلامية معا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان انتخاب أوباما في حد ذاته مؤشرا على تغير ما في المزاجية الأمريكية السياسية، تغير عكس رفضا واضحا لتطرف اليمين الأمريكي المحافظ الذي مثله جورج بوش الابن في ولايتيه.
 غير أن هذه الآمال تبددت على صخرة ما اصطلح على تسميته ب‍ "الربيع العربي" ومن خلفه بدت علامات من الخلافات الواضحة تظهر في الأفق بين دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وبين إدارة أوباما، وقد بلغت مبلغها بعد الرفض الأمريكي ولو غير المعلن لثورة المصريين التصحيحية في 30 يونيو، عطفا التقارب الأمريكي الإيراني، ثم التخاذل الأمريكي تجاه الملف السوري، وعليه فإن علامات الاستفهام في هذا المقام عدية منها :هل تجئ هذه الزيارة كمحاولة لانتشال العلاقات الأمريكية السعودية من أزمات طاحنة تكاد تؤثر على علاقة إستراتيجية تقترب اليوم من العقود السبعة ؟ وهل أدركت إدارة أوباما بالفعل إنها أخطأت ولهذا تحاول السعي جاهدة لتصحيح أخطاؤها ؟ ثم ما هو مستقبل هذه العلاقة المتميزة، وهل حقا هي علاقة تقف عند حدود معادلة تبادلية محتواها الأمن الأمريكي مقابل النفط السعودي ؟ وما صحة القول بأن النفط السعودي سيفقد في القريب العاجل أهميته لصالح الزيت الصخري الأمريكي المكتشف حديثا ؟.
 المؤكد أن الإحاطة الشافية الوافية بالمطلق حول سيرة ومسيرة تلك العلاقات ربما يكون في حاجة إلى مؤلفات بعينها، غير أننا سنحاول في غير اختصار مخل أو تطويل ممل، إلقاء قبس من الضوء على هذه الزيارة واشكالياتها ومستقبليات تلك العلاقة.

لقاء كوينسي بين روزفلت وعبد العزيز

ربما يتحتم علينا أن نعود إلى الماضي لنفهم العمق التاريخي والجذور الأساسية الرئيسية التي قامت عليها هذه العلاقة، ففي شباط فبراير 1945 التقى الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت للمرة الأولى والوحيدة في البحيرات المرة المصرية على متن الطراد الأمريكي الشهير "يو.أس.أس.كوينسي". كان مهندس اللقاء([1]) "ويليام إيدي" سفير أمريكا في جدة مستعربا تخرج في جامعة برنستون، وهو سليل مبشرين عملوا في الشرق الأوسط، وفي التاسعة والأربعين من عمره ، كما كان قائدا بحريا سابقا نال أوسمة ونياشين ورئيس مكتب الخدمات الإستراتيجية (المخابرات المركزية الأمريكية لاحقا)، وبذلك جمع بين الإيمان والقوة.
على أنه قبل اللقاء كان "إيدي" يعرف مواقف عبد العزيز من أهم قضية كانت تشغل بال العرب والمسلمين في تلك الآونة، أي قضية فلسطين، فمنذ بدايات الحرب العالمية الثانية كانت الإدارة الأمريكية تأمل في أن يستخدم الملك وضعه المميز الفريد في الشرق الأوسط للمساعدة في إخماد احتجاجات العرب ضد الصهيونية، لكن هذه الآمال تحطمت في مايو / آيار 1943، بسبب مذكرة غاضبة موجهة إلى روزفلت … فقد أصر عبد العزيز على أن "اليهود ليس لهم أي حق في فلسطين" ولاحقا على سطح الطراد "كوينسي"،  عندما أراد روزفلت اللعب على وتر الهولوكست الذي جرى لليهود في ألمانيا وبولندا، رد عبد العزيز قائلا: "حسنا إذا كان ثلاثة ملايين يهودي قد قتلوا في بولندا، فهذا معناه توافر مكانهم الشاغر لثلاثة ملاين يهودي"
باختصار القول كانت رؤية أمريكا وريما لا تزال للملكة العربية السعودية هي أن صداقة المملكة العربية السعودية وعبد العزيز آل سعود تعني وتضمن "صداقة ثلاثمائة مليون مسلم (وقتها) ونياتهم الحسنة ومواردهم، وفي الوقت نفسه تحمي "أثمن جوهرة" في الشرق الأوسط قيمة، أي المملكة برصيدها النفطي العملاق، إنها إذن معادلة الأمن مقابل النفط … في تقدير البعض، لكن هل هذه هي الحقيقة كاملة أم مجتزأة ؟

 

واشنطن … الرياض … أبعد من النفط

في واقع الحال، تبقي العلاقات بين واشنطن والرياض أهم وربما أعقد بكثير من مجرد هذا التبسيط المثير للجدل([2])، والعهدة هنا على الراوي "راشيل برونسون، نائبة الرئيس لشؤون البرامج والدراسات في مجلس شيكاجو للشؤون الخارجية، وهي باحثة متخصصة في مجالها، وعملت كمديرة لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.
ترى برونسون أن النفط  وحده لا يفسر دون سواه السبب الذي أدى بالولايات المتحدة والسعودية إلى صياغة شراكة حميمة من هذا النوع.
ففي النهاية أسفرت علاقات أمريكا بباقي الدول الرئيسية المصدرة للنفط عن اضطرابات شديدة، وطيلة فترة الحرب الباردة عاشت الولايات المتحدة صراعها مع الاتحاد السوفيتي وهو دولة رئيسية مصدرة للنفط، وعلى مدى ثلاثين عاما من الستة وثلاثين عاما ما بين عامل 1967 و 2003، لم تقم الولايات المتحدة علاقات سياسية رسمية مع العراق الذي يقدر بأنه يحتوي على 115 مليار برميل كاحتياطي مؤكد، محتلا بذلك المرتبة التي تلي السعودية، أما إيران التي تستحوذ على 10% من النفط في العالم، فقد رزحت تحت عبء العقوبات الأمريكية لأكثر من ثلاثة عقود، كما اختبرت ليبيا نحو عقدين من العقوبات بقيادة الأمريكيين، وفي عام 2002 قامت الولايات المتحدة من وراء الكواليس بجهود فاشلة وخارجة عن القانون رمت إلى الإطاحة برئيس فنزويلا هوجو تشافيز، وفي خريف 2004 شجعت الولايات المتحدة بشدة على فرض عقوبات دولية على صادرات السودان النفطية … لماذا إذن بقيت العلاقات الأمريكية السعودية على هذا النحو من القوة بشكل متفرد ؟

السعودية ودورها في السياسة العالمية

الشاهد أن المملكة العربية السعودية قد جذبت انتباه الولايات المتحدة في صراعها العالمي الساخن ضد الشيوعية الملحدة، وساعدت السعودية بمقدار كبير الولايات المتحدة في معركتها إبان الحرب الباردة، ذلك أن ضمان تدفق النفط السعودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبأسعار معقولة ومقبولة، ساعد واشنطن على فرض العقوبات التي تريدها سياسيا واقتصاديا على الدول التي رأت إنها تمثل تهديدا بالنسبة لها، وهو ما عزز مكانة السعودية أكثر من أي وقت مضى. فأهمية النفط السعودي تبدو أنها نشأت جزئيا على أسس سياسية أكثر من أنها قدر للملكة أن تحظى بها.
في هذا السياق نرى "راشيل برونسون([3]) إنه ينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام بالبيئة السياسية العالمية، حيث الحاجة ماسة إلى النفط، وإلى استثمار عائداته، إذا أردنا أن نفهم العلاقة الأمريكية السعودية منذ أمد طويلا، مثلما كانت عليه حال العلاقات جميعها قامت الشراكة الأمريكية السعودية في إطار الحرب الباردة، وكانت ذات جدوى في إدارة بعض الوقائع السياسية.
وقد قسمت التوترات التي برزت في هذه العلاقة، ومنها الخلافات  حول إسرائيل، إلى عناصر جزئية مستقلة بسبب مصالح مشتركة واسعة النطاق تتعلق بمواجهة الاتحاد السوفيتي، فبنية الحرب الباردة الإستراتيجية مهمة لشرح العلاقات الثنائية الوثيقة، بمقدار أهمية الموارد الطبيعية للمملكة وحاجاتها الدفاعية. وهذا على الأقل جزء من السبب الذي حال دون اعتماد أمريكا على موارد النفط في العراق وليبيا، رغبة في التنويع بعيدا عن السعودية، كما أنه يفسر السبب الذي يدفع المملكة إلى إقامة علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، عوضا عن الاتحاد السوفيتي الملحد رسميا والمناهض للمملكة دوجمائيا على الأقل.

إدارة التوازنات السياسية بين البلدين

ومما لاشك فيه أن إدارة العلاقات الأمريكية السعودية ظلت في عهد الملك عبد الله على أعلى درجة من درجات عملية الموازنة السياسية مما كانت عليه الأمور من قبل.
لقد كان  الملك عبد الله  أكثر قدرة على موازنة المصالح السعودية، والحاجة إلى تجنب إظهار نفسه على أنه تابع، في الوقت نفسه الذي يحافظ فيه على صلته المهمة مع الولايات المتحدة، وقد قدر لهذه الصلة أن تتحمل خلافات جدية في السنوات الأولى من إدارتي الرئيس جورج دبليو بوش الابن على وجه الخصوص، وذلك حول دعاية الأخير بالنسبة إلى تخفيف الاعتماد على النفط المستورد والسياسية الأمريكية في المنطقة، وليس أقلها حول رد فعل أمريكا على غزو إسرائيل للبنان في عام 2006، والاعتداءات على غزة، وإدارة حماس الإسلامية التي تم انتخابها في غزة.
ولعل المتابع لمواقف وتصريحات الملك عبد الله يدرك جيدا أن المملكة لم تكن قادرة على تحمل اعتبارها وكأنها توافق على ما يبدو أنه التأييد غير المشروط الذي تحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة لقد أدان الملك عبد الله بشدة أعمال إسرائيل وطلبت السعودية من المجتمع الدولي التحرك.
ومن قبل كان الملك عبد الله(الأمير وقتها) ، هو صاحب المبادرة التاريخية الخاصة بإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، تلك المبادرة التي أعلنها على العالم في القمة العربية التي عقدت في بيروت في شباط / فبراير 2002، وقد كانت مبادرة ذاتية تمت من خلال رؤية سعودية خالصة بدون تنسيق أو ترتيب مع أي من الأطراف الفلسطينية أو الإسرائيلية أو الأمريكية، ما يعني أن عملية إدارة السياسية الخارجية السعودية تنطلق من الذات وليس من الآخرين.

الربيع العربي وانعكاساته على العلاقة

والمقطوع به أنه لا يمكن الحديث عن العلاقات الأمريكية السعودية دون أن يتوقف المرء لقراءة انعكاسات ما عرف ب‍ "الربيع العربي"  على قوة ومتانة العلاقات الأمريكية السعودية، والذي كان في تقدير الكثيرين من المراقبين للمشهد السياسي في المنطقة نقطة الخلاف الأولى بين البلدين، إذ لا ينكر أحد أن سحابة من الضيق والانزعاج قد خيمت على سماوات المملكة من الطريقة المهينة التي تخلى بها الأمريكيون عن أحد أهم حلفائها في المنطقة، الرئيس المصري حسني مبارك، والذي مثلت إدارته عبر ثلاثة عقود ركيزة كبرى في التعاون الأمريكي الشرق أوسطي.
 كذلك كانت المخاوف السعودية وهي مخاوف أثبتت الأيام صحتها من تسلق الإخوان المسلمين إلى الأعلى، وارتقائهم سدة الحكم، مع ما يمكن لهذا الصعود من أن يكون أداة لعدم الاستقرار خليجيا وشرق أوسطيا.
وعلى الرغم من قناعة البعض بأنه جرى التوصل إلى تفاهم براجماتي بين واشنطن والرياض حول الوضع المصري  بحلول منتصف 2012، مما خفف من الاختلافات مع الولايات المتحدة، إلا أن ثورة المصريين التصحيحية في 30 يونيو، وما واجهته من رفض للعلاقات الأمريكية الإخوانية، رتب رفضا أمريكيا مبطنا لها، وفي الوقت ذاته لقي ترحيبا ودعما سعوديا وخليجيا بامتياز، وربما اعتبر الأمريكيون أن المساعدات المالية الخليجية الطارئة لمصر، بمثابة السير على عكس ما تهوى وترتئي إدارة أوباما، ومن هنا بدأت المشاهد تتأزم من جديد.
والثابت أن هذا كله قد جرى وفي القلب منه مشهد حاسم لم يكن للمملكة ولدول الخليج أن تقف أمامه ساكنه لاسيما وأنه يمس مهددات الأمن القومي الخليجي وبخاصة السعودي، كان المشهد يتعلق بالبحرين فقد كانت الأيادي الإيرانية تلعب هناك لإحداث المزيد من القلاقل والاضطرابات تحت دعاوى مشابهة لما جرى في دول الربيع العربي، وبينما كان الدبلوماسيون الكويتيون والأمريكيون لا يزالون يحاولون التوصل إلى حل وسط مع المعارضة، فإن قوة تدخل عسكري تقودها المملكة، تقدمت إلى البحرين، من أجل الحفاظ على أمن وأمان البحرين، وداعمة لموقف ولي العهد الساعي إلى حل وسط، وهو الأمر الذي هاجمته أقلام أمريكية عددية، واعتبرت السكوت الأمريكي عملية رضوخ لما تمثله قوة ونفوذ النفط السعودي في الداخل الأمريكي.

الاختلاف حول التقارب مع إيران

حكما تمثل الطموحات النووية الإيرانية، قلقا بالغا للشرق الأوسط برمته، وللخليج على نحو التحديد، وتأتي المملكة العربية السعودية بحكم أهمية حضورها وتأثيرها الديموغرافي، والإستراتيجي، والديني ، في مقدمة الدول التي شعرت ولا تزال بالأبعاد الخطيرة لهذا المشروع، وبالتالي فإنه عندما ترتسم في الآفاق ملامح، وفاق أولى، أو اتفاق مبدئي بين واشنطن وطهران، فعلى الرياض أن تشعر بالقلق، لاسيما وأن هناك دلائل دامغة على وجود حلف للمصالح المشتركة بين طهران وتل أبيب وواشنطن منذ عقود طوال … هل من رجاحة ما للمخاوف السعودية من التقارب الأمريكي الإيراني ؟
 قطعا إن العلاقات الأمريكية الإيرانية قبل سقوط شاه إيران كانت من القوة بمكان اعتبارها ركيزة أساسية في الخليج العربي والشرق الأوسط لمواجهة نفوذ وانتشار الاتحاد السوفيتي، ومحاولاته المستمرة والمستميتة من الاقتراب من منابع النفط، والمياه الدافئة، وعليه فإن علامة الاستفهام هل يمكن أن يقود اتفاق جنيف الأولى الأخير بين طهران ومجموعة الدول الغربية المعروفة ب‍ 5+1 إلى عودة مثل هذه العلاقات، ما سيؤدي ولو في الأجل المتوسط والبعيد لإعادة اعتبار طهران في نظر واشنطن القوة المهيمنة في المنطقة، وعمود الخيمة للعلاقات الأمريكية الخليجية، مع ما لهذا الاعتبار من استحقاقات سلبية مستقبلا على الرياض وبقية العواصم الخليجية الأخرى ؟
يكتب "إميل نخلة" المسؤول السابق الكبير في الاستخبارات المركزية الأمريكية ما يمكن أن يعزز بالفعل صدقية المخاوف السعودية(4)، وعنده أنه: "في ظل حكم الشاه في الفترة من الخمسينات إلى السبعينات من القرن الفائت، كانت إيران هي الحامية الرئيسية لما يسمى بالحزام الأمني في منطقة الخليج، ولعبت المملكة العربية السعودية بموافقة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دور الشريك الأصغر ضمن ذلك الترتيب.
ورغم أن التصريحات الرسمية الإيرانية الأخيرة لا تبشر أو تؤكد بأن المضي قدما في الاتفاقية النووية سيجري في سهولة ويسر، فإن حيازة إيران لبرنامج نووي، يبقي أمر غير مريح في الحال والاستقبال لكافة دول الخليج وفي المقدمة المملكة العربية السعودية، كما أن الإستراتيجيات الأمريكية العسكرية والسياسية الجديدة، تميل إلى الانسحاب من الشرق الأوسط، والاتجاه شرقا نحو آسيا، وإحياء وكالات لدول كبيرة في المنطقة للحفاظ على التوازنات السياسية والعسكرية ما يجعل دوائر عديدة ترى أن طهران ستكون أكثر إفادة لواشنطن من عواصم عربية أخرى، وما يحمله هذا التوجه من تقليص نفوذ تقليدي للعواصم ذات الأغلبية السنية مثل الرياض والقاهرة على وجه الخصوص.

التخاذل الأمريكي تجاه الملف السوري

ضمن أهم الملفات الإشكالية التي تواجه وتجابه العلاقات بين واشنطن والرياض، يأتي الملف السوري، ذلك أنه بعد ثلاث سنوات من المأساة الدائرة في سوريا، تبدو الأمور وكأنها تعود إلى نقطة الصفر، بل ربما يحقق نظام الأسد بعض النجاحات العسكرية في مسعاه لمواجهة الثوار، وفي مواجهة الحملات العسكرية المكثفة للنظام السوري وبراميل البارود المتفجرة، والقتل والتنكيل، عطفا على التهجير وانتشار الإرهاب القاعدي، تبدو واشنطن وكأنها متخاذلة تارة، ومترددة تارة أخرى، ومضطربة ثالثة، فساعة تعلن عن وقف المساعدات غير الفتاكة للمعارضة السورية، وساعة أخرى تعلن عن البدء في تزويد جماعات معارضة لها مسحة سياسية إيديولوجية غير عقائدية بأسلحة دفاعية، الأمر الذي لا يسمن ولا يغني عن جوع.
ولعل المأساة الحقيقة في الذي يجري عبر الأراضي السورية هو تصارع الإرادات الدولية، الأمر الذي باتت المملكة العربية السعودية تمجه بدرجة بالغة، فقد كان القرار الأمريكي بالتراجع عن توجيه ضربة لسوريا بعد الحديث عن استخدامها أسلحة كيمائية ضد الثوار والمعارضين، نقطة فاصلة في رفض السعودية للسياسات الأمريكية ذات المعايير المزدوجة، ولم تجد زيارات كيري إلى المملكة في إشاعة جو من التطمينات أو التواصل إلى صياغات مستقبلية لإنهاء الإشكال السوري.
ولعل التوجه السياسي السعودي الذي رفض المقعد غير الدائم في مجلس الأمن الدولي مؤخرا، قد عبر عن حالة الإحباط السياسي الذي تشعر به المملكة تجاه المجتمع الدولي المتخاذل عن إنقاذ الشعب السوري، وعن الرفض لرؤية العالم وكأنه صراع بين قوى كبرى، تتعاطى مع الدول الباقية من حولها كبيادق على رقعة الشطرنج، وربما كانت خطوة السعودية في مجلس الأمن رسالة إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالفعل.

نفط أمريكا والوزن الاستراتيجي للمملكة

هل يمكن للنفط الذي كان رباط مهما - وإن لم يكن الوحيد - بين واشنطن والرياض، أن يضحى عاملا من عوامل تحلل وتفكك هذه العلاقة العضوية ؟
مؤخرا كثر الحديث عن الثروة النفطية الأمريكية المكتشفة حديثا أو بمعنى أدق التي ساعدت التكنولوجيا الأمريكية الحديثة على استخراجها من الصخور المتوافرة بكثرة في المياه والأراضي والجبال الأمريكية، وكيف إنها ستعطي الولايات المتحدة فرصة للتخلص من الرباطات السياسية التي ربطتها بموردي النفط في العالم الخارجي، وفي مقدمتهم الخليجيين بلا شك والسعوديين خاصة مرة وإلى الأبد، مع ما يعنيه ذلك من ضعف مستقبلي يكاد يصل إلى درجة الهشاشة في أي موازنات سياسية بين الطرفين، وما يجعل أحدهما طرفا مذعن للآخر.
هل من صحة أو صدقية لهذا الحديث ؟
بلا شك، هذه الجزئية في حاجة إلى ورقة بحثية بمفردها، لكن الناظر للعالم بعيون غير متحيزة لفكرة بعينها، يدرك أن العالم مع زيادة سكانه، في حاجة متزايدة للنفط بدرجة غير مسبوقة، لاسيما وأنه مصدر الطاقة الأنفع والأرفع لخمسين عاما قادمة.
ووجهة النظر السعودية في هذا الإطار عبر عنها وزير البترول السعودي "على النعيمي" حين قال أن الطلب العالمي يكفي لاستيعاب النفط الصخري الأمريكي والنفط السعودي وأن زيادة المعروض في السوق تساعد على خفض أسعار الخام العالمية إلى مستويات مريحة للجميع.
هذا الحديث تعضده أصوات عالمية، مثل "باتريك فان ديل" نائب الرئيس والمدير التنفيذي لشركة شل للخدمات العالمية المحدودة لدى السعودية والبحرين، والذي استبعد أن تشكل طفرة النفط الصخري في العالم تهديدا اقتصاديا للسعودية التي تعد من أهم الدول المصدرة للنفط.
ثلاثة أسباب عند "فان ديل" تجعل النفط الصخري لا يشكل تهديدا لنفط المملكة والخليج:
أولا: جميع أنواع الطاقة التي يمكن الحصول عليها تكمل بعضها.
ثانيا:      إنتاج النفط الصخري عالي التكلفة.
ثالثا:      الاحتياطات المتوقعة للنفط الصخري في العالم صغيرة نسبيا مقارنة بالنفط التقليدي، وفي عالم يزداد عدد سكانه، ويسعى الجميع فيه إلى وسائل رفاهية وخدمات في حاجة إلى طاقة متجددة.
 هل الحديث عن الاستقلالية في مجال الطاقة بات ضروريا بقدر تقبيل الأطفال(5) ؟ هكذا تساءل الأمير تركي الفيصل على صدر صفحات مجلة الفورين بوليس الأمريكية، والذي يشير إلى أن هذا الشعار، مجرد كلام سياسي وهو مبدأ غير واقعي ومضلل ومضر في النهاية بالبلدان المنتجة للطاقة والمستهلكة لها على حد سواء، وغالبا ما يتم استعماله للمجادلة بأن الولايات المتحدة تعتمد بشكل خطر على المملكة العربية السعودية، التي تلام على كل شيء بدءا من الإرهاب العالمي وصولا إلى أسعار الوقود المرتفعة.

زيارة أوباما … اكتشاف أهمية السعودية ثانية

هل تجئ زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمثابة نوع من محاولات إعادة تصحيح المسار الأمريكي للحفاظ على هذه العلاقة الإستراتيجية ؟
يتضح أولا من خلال الإعداد الأولي لتلك الزيارة أن هناك اهتماما عريضا  بها، وأن الرياض هي مفتاح للعلاقات مع أربع دول كبرى في المنطقة وهي مصر والأردن والإمارات العربية.
 في هذا الصدد يمكن للمرء أن يلحظ أحد أهم التعيينات الأخيرة في إدارة أوباما، أي تعيين روبرت مالي، رجل مجموعة الأزمات الدولية، المحامي وعالم السياسية الأمريكية والذي يحمل رؤى إبداعية عادة في تقديم حلول للمشاكل السياسية المعقدة، ومالي في مقدمه الوفد الذي سيصاحب أوباما إلى المملكة العربية السعودية، ومن خلفه أصوات أمريكية عددية تعرف مدى الأهمية الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية، منها على سبيل المثال وليس الحصر، الكاتب الأمريكي الشهير "دافيد إغناتيوس" الذي كتب مؤخرا عبر صفحات الواشنطن بوست داعيا إلى إنقاذ العلاقات الأمريكية السعودية بعد نحو عامين من ترديها.
بعض الأصوات الاستخباراتية التي كعادتها ترفض الكشف عن اسمها أشارت منذ أيام قليلة إلى أن العلاقات الأمريكية السعودية علاقات إستراتيجية، ومن الصعب اختصارها بإيران وتصدير النفط إلى أمريكا، وأضاف القول : أن للمملكة ثقل مهم وإستراتيجي في لعبة التوازن الأمريكية الجديدة مع الصين وشرق آسيا، وهذا أمر قائم بذاته ويحتاج إلى مقالات متخصصة للحديث عنه، ذلك أنه  باختصار شديد تبقي الصين متعطشة إلى المزيد من النفط، وإدمانها على الطاقة سيزداد في العقود القادمة، مع ازدياد خططها للتوسع والانتشار حول العالم، وهي المقبلة على منافسة إمبريالية جديدة مع الأمريكيين تحديدا  في القارة الأفريقية.
بعض الأصوات ذات الخبرة السياسية العريضة في الولايات المتحدة مثل السيناتور الجمهوري "جون ماكين" والمرشح السابق لرئاسة الولايات المتحدة، وصف السعودية بأنها حليف إستراتيجي للولايات المتحدة، وأعرب مؤخرا عن تقديره للجهود التي تبذلها حكومة خادم الحرمين الشريفين لمكافحة الإرهاب بكافة أشكاله وصوره، ولدورها المحوري في السلام والأمن الإقليمي والدولي والتنمية في دول المنطقة، وشدد على أهمية لعمل على تطويرها بما يخدم المصالح المشتركة للبلدين والشعبين الصديقين.
بعد لقاء عبد العزيز - روزفلت، يأتي لقاء أوباما - عبد الله ليتكشف للأمريكيين من جديد أهمية الخليج العربي والسعودية كرأس حربة له حول العالم، فالخليج في موقع إستراتيجي بين آسيا القوة الإمبراطورية القادمة وبين الشرق الأوسط وأوربا القديمة، ومن خلفها الولايات المتحدة، والخليج والسعودية في القلب منه لا تزال تحتفظ في باطنها بثروات نفطية مؤثرة على صعيد إستراتيجيات الطاقة العالمية، وتلعب دور بالغ الأهمية في نمو وتقدم العالم(6)، والخليج بسياساته المتسمة بالاعتدال، والسعودية نفوذها يسعى للتعقل والإيجابية ولبلورة حلول لمشاكل أثرت طويلا سلبا على سلام وأمن الشرق الأوسط كالقضية الفلسطينية، الأمر الذي نصه هنري كيسنجر بالعمل عليه على عجل(7)، فهل ينجح أوباما في تهدئة المخاوف الخليجية ويحقق مكسب حقيقي لسياساته الخارجية التي أخفقت حتى الساعة في إدراك إنجاز حقيقي يكتب لولايتيه؟
 في انتظار الزيارة واستحقاقاتها ونتائجها عما قريب.

المصادر

 (1): Power,Faith,and Fantasy.Micheal B.Orean .NY,2008 .Page 458
(2) Saudi Arabia in the Balance. Paul Arts anfd Gred Nonneman .        London 2005. page 436
(3) المرجع السابق  ص. 437
(5) الفورين بوليسي عدد 174 . سبتمبر / أكتوبر 2009 . ص .  38
 (6) جريدة الرياض الأربعاء 7 يناير 2009 . د هاشم عبد هاشم. افتتاحية
(7) Does America Need a Foreign Policy. Henry Kissinger ,Simon &Shuster NY ,2001.Pge327


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق